بعد الإطاحة بالطاغية معاوية ولد سيد احمد الطايع في انقلاب 2005، بدأ الأمل يتسلل إلى قلوب الكثيرين في مورتانيا حيث ظنوا أن البلاد دخلت في مرحلة جديدة تطبعها الديمقراطية ودولة المؤسسات والقانون. وازدادت قناعتهم أن الديكتاتورية قد أفل نجمها وسحق جدارها مع وعد المجلس العسكري، الذي تأسس بعد الانقلاب، بتسليم السلطة للمدنيين في انتخابات نزيهة تحت إشرافه. لكن سرعان ما اكتشف الموريتانيون أن الحرية لا توهب، بل تنتزع وأنه من المستحيل أن تمطر السماء ديمقراطية.
فقد قام ذالك المجلس بجلب رجل غير معروف في المشهد السياسي الموريتاني، يسمى سيدي ولد الشيخ عبد الله، ووضع أفراده كل ثقلهم خلفه وسخروا موارد الدولة له، حتى نجح في انتخابات شهد العالم بنزاهتها واعتبرت تجربة رائدة في العالم العربي. فاز الرجل على القوى، التي عرفت بنضالها ضد الطاغية معاوية وذالك نتيجة لتفتتها وعدم توحيد كلمتها ضد مرشح العسكر، بل رجح بعضها كفته. لكن الرجل حاول بعد أن أمسك بالحكم ان ينقلب على العسكر ويتحول إلى رئيس فعلي. حيث عبر عن رفضه لدور الدمية، باستخدام صلاحياته. وقام بإقالة رئيس الحرس الرئاسي الجنرال محمد ولد عبد العزيز-الرئيس الحالي لموريتانيا- رفقة قائد الأركان الحالي الجنرال ولد الغزواني. لكن رد هؤلاء القادة بعنف شديد فقاموا بإزاحته بعد ساعات من قراره، وهو الذي لم يقضي من فترته الرئاسية سوى عام ونصف. وأصبح الحكم عسكرياً من غير رتوش.
رجعت موريتانيا للمربع الأول، وأعلن عن مجلس عسكري جديد بقيادة الجنرال محمد ولد عبد العزيز. طبعاً لم ترق للمعارضة عودة العسكر، وبدأ الصراع من جديد بين معسكر رافض للإطاحة بالرئيس المدني، وأخر مرحب بالانقلاب. واستمرت الاحتجاجات ضد الانقلاب برهة من الزمن إلى أن ركن المعسكرين إلى مفاوضات في العاصمة السنغالية دكار. كان كعب الحاكم العسكري فيها هو الأعلى وتمخضت تلك المفاوضات عن اتفاق بين الفريقين، عرف باتفاق" دكار" سنة 2009، والذي تم تحت ضغط فرنسي –كالعادة - تم بموجبه الإعلان عن حكومة تصريف أعمال، تقاسم الفرقاء السياسيين فيها الوزارات وأشرفت على انتخابات رئاسية صورية. في نفس العام فاز فيها الحاكم العسكري محمد ولد عبد العزيز بالإنتخابات، ولم يعترف أهم أحزاب المعارضة بها. ورجعت قصة الجنرال الذي يفسخ اللباس العسكري ليكتسي المدني إلى الواجهة.
طبعا الرئيس الجديد لم يغير نهج من سبقوه من العسكر فتفنن في القمع والتنكيل والنهب والفساد واعتماد منهج تصفية الحسابات مع الخصوم كذالك الأحادية في الحكم والتحكم القبلي وتقديم ثروات البلاد هدايا للمقربين منه واحتكار وسائل الإعلام الرسمية. حتى أنه بعد أن أعلن عن تحرير الفضاء السمعي البصري منع كل من تشم فيهم رائحة المعارضة من تراخيص للقنوات والإذاعات وقسمها بين أقاربه والدائرين في فلكه. كذالك تنكر للاتفاق الذي حدث بينه وبين المعارضة والذي كان يقضى بفتح حوار دائم بينها ومؤسسة الرئاسة ومراجعة اللوائح الانتخابية ومجموعة أخرى من النقاط. وكان ردها هو المطالبة بسقوطه، وبدأت بالخروج في مسيرات ضخمة كان بعضها تاريخياً، من حيث الحشد، وكان الشباب الموريتاني قد سبقها في الخروج تفاعلاً مع الربيع العربي، حيث بدأ خروجه في 25 فبراير 2011. كل هذا الاحتقان حدث، بعد أن حاولت المعارضة مراراً وتكرار جره إلى حوار حقيقي يخرج الدولة من أزمتها ومحنتها. واليوم وبعد سنين من الشد والجذب والاحتقان والانقلابات والمجالس العسكرية أصبحت المعارضة بكل تشكيلاتها تطالب بسقوط حكم العسكر وتمدين الحكم في موريتانيا.
ذالك المطلب المهم الذي يمكن تحقيقه بضغط الشعب وبالاستفادة من تجارب من سبقونا من بلدان الربيع العربي، خاصة بعد إصابة ممثل نظام العسكر الجنرال محمد ولد عبد العزيز، بطلق ناري لم يعرف إلى الآن مصدره والحديث عن عدم قدرته على إدارة البلاد نتيجة لتأثير الإصابة عليه. فقد اختفى عن الأنظار لما يزيد عن الشهر في مستشفى في باريس لكي يتلقى علاجه، وعندما خرج بعد شهر كان المرض ظاهراً على جسمه. وهناك أنباء تتحدث عن كونه سينقل بعض صلاحياته إلى رئيس الوزراء، مولاي ولد محمد لغظف، أثناء رجوعه إلى البلاد، لكي يغادر مرة أخرى إلى فرنسا. فلم يعد بامكانه الابتعاد عن المستشفى الباريسي.
فترة انتقالية مدنية لاعسكرية:
لقد حان الوقت لنعي تعاسة الركون إلى أنصاف الحلول، وننزع نحو التغيير الجذري الحقيقي والمطالبة في الفترة القادمة بالتأسيس لدولة مدنية مبنية على احترام القانون ويتم ذالك عن طريق:
إعلان حكومة وحدة وطنية، أساسها من أصحاب الكفاءات الغير متورطين في قضايا فساد، ولم يعرفوا باحتقارهم للشعب. حكومة مطبق فيها مبدأ عزل كل أزلام النظام السابق، ونقية من رائحة العسكر وتكون حكومة تملك قرارها لا مجرد حكومة تصريف أعمال، بحيث يمكنها تطهيرالإدارة من الحرس القديم ووضع حد لرسوخ قدم العسكر فيها، ووجودهم في كل التفاصيل. كذالك يخول لها الإشراف على انتخاب مجلس تأسيسي يضع أولى لبنات المؤسسية في موريتانيا، ويكتب دستوراً نابعاً من إرثنا وتجربتنا مناسباً لمتطلبات العصر، يؤكد التداول السلمي على السلطة ويضمن عدم" تأله" الرئيس وفيه فصل واضح بين السلطات، ويختتم المجلس التأسيسي أعماله بانتخاب رئيس مدني على أساس سليم . طبعا سيقول البعض إن هذا يتطلب زمناً طويلاً، لكن المهم هو النتيجة وليس الوقت فمصيبتنا هي المسكنات.
هذه هي المطالب التي علينا رفعها الآن وفرضها بقوة الشارع. فقد جربنا العسكر ومجالسهم. ففي عهد المجلس العسكري للعدالة والتنمية، الذي كان بقيادة "أعل ولد محد فال" لم يحدث تزوير، لكن وقف الجيش مع مرشح وضغط من أجل فوزه. أيضاً بعد الإطاحة بالرئيس سيدي وقبول المعارضة بالدخول في حكومة، لا يمكنها تغيير أي حاكم أو وال. استطاع العسكر أن يجملوا حكمهم ويرجعوا من نافذة الانتخابات، والتي لم يمنع كونها صورية من اعتراف العالم بها، رغم أن المنظمات المهمة لم تراقبها. طبعا حدث ذالك بمساعدة المستعمر السابق، فرنسا، من خلال علاقاتها الدبلوماسية، التي وضعت تحت تصرف وشرف الجنرال محمد ولد عبد العزيز. واليوم أصبح من الواضح للعيان أن العسكر ينظرون لنا ككرة يهون اللعب بها وحربنا يجب أن تكون من أجل تأسيس دولة مدنية تنسف كل مخلفات حكم العسكر والوصاية الفرنسية عن طريق مرحلة انتقالية تقودها القوى المدنية.